غزة ..العصية علي الكسر

القطاع رغم صغر مساحته الجغرافية إلا أن تركيبته السكانية والتاريخية جعلت منه مصدر قلق وتهديد دائم بالنسبة للمحتل الإسرائيلي على المستويات السياسية والعسكرية والديموغرافية، وهو ما جعل بعض الساسة الإسرائيليين يتمنوا أن" يبتلع البحر غزة" ليريحهم منها.
موطن اللاجئين
رغم أن القطاع لم يتعرض لهجمة عسكرية مباشرة في حرب عام 1948 إلا أن تأثير هذه الحرب امتدت إليه، فقد استقبل القطاع آلاف اللاجئين الفلسطينيين الذين تم إجلائهم من مدنهم وقراهم الأصلية بواسطة هجمات العصابات الصهيونية، كما أن هذه الحرب حددت ورسمت حدود القطاع مع كل من مصر ودولة "إسرائيل" الناشئة للمرة الأولى بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وخضع القطاع للسيطرة والإدارة المصرية المباشرة، وتعرض خلال حرب عام 1956 لاحتلال إسرائيلي استمر أربعة أشهر.

وكما تجرع القطاع مرارة النكبة في 1948 فقد تجرع مرارة النكسة في عام 1967، حين أسفرت الحرب العربية-الإسرائيلية الثالثة عن احتلال القطاع إلى جانب احتلال القدس والضفة الغربية والجولان السوري وشبه جزيرة سيناء، لتبدأ مرحلة من لعبة "عض الأصابع" مع الاحتلال الإسرائيلي كانت غزة مسرحها الرئيسي.
الشرارة الأولى
كانت غزة دائما هي المنطقة السباقة فيما يتعلق بالكفاح الفلسطيني المسلح ضد الاحتلال، فمنها ظهرت النواة الأولى للحركة الفدائية الفلسطينية حين قام البكباشي المصري الشهيد مصطفى حافظ بتكليف من الرئيس جمال عبد الناصر بتشكيل كتيبة من الفدائيين في عام 1955 من أبناء اللاجئين في قطاع غزة لمواجهة الوحدة 101 الإسرائيلية التي كان يقودها أريل شارون للإغارة على القرى الفلسطينية، وسرعان ما تطورت كتيبة الفدائيين إلى أن وصل معدل عملياتها إلى عملية يوميا، بل وصلت بعض العمليات إلى العمق الصهيوني كمهاجمة مستوطنة "ريشون ليتسيون" قرب تل أبيب.

ورغم إجهاض التجربة الفدائية الوليدة باغتيال الموساد الإسرائيلي لقائدها مصطفى حافظ، إلا أنها شكلت القاعدة التي استندت إليها الحركة الفدائية الفلسطينية التي سطع نجمها في أواخر الستينات وبعد هزيمة عام 1967 بشكل خاص .
الجهاد..الجهاد
وكما شهدت غزة مولد الحركة الفدائية الفلسطينية فقد شهدت أيضا مولد العديد من الحركات الفلسطينية المقاومة وبخاصة الإسلامية منها التي قدر لها فيما بعد أن تكون منافسا قويا لمنظمة التحرير الفلسطينية التي ظلت حتى ثمانينات القرن العشرين تقريبا تحتكر تمثيل الشعب الفلسطيني.

وكان أول هذه الحركات من حيث الظهور على الساحة هي حركة الجهاد الإسلامي التي أسسها الشهيد فتحي الشقاقي عام 1981، والتي انتهجت خطا إسلاميا مقاوما، بدا واضحا تأثره بالثورة الإسلامية في إيران عقب انتصارها في 1979، كما انطلقت الحركة من فكرة أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للحركة الإسلامية وان واجب "المجاهدين" في فلسطين هو منع استقرار إسرائيل بأي ثمن.

وفي عام 1987 ظهرت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي أسسها الشيخ أحمد ياسين، والتي يرى فيها كثيرون امتدادا لحركة الإخوان المسلمين في مصر، وأصدرت الحركة بيانها الأول في 6 ديسمبر 1987 والذي عبرت فيها عن نهجها الفكري الذي يعتبر أرض فلسطين كلها من البحر إلى النهر وقفا إسلاميا لا يجوز التنازل عنه ولا التفريط فيه، ومن هذا المنطلق اتخذت الحركة موقفا معارضا لكافة الاتفاقات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.
أول الحجارة

في 9 ديسمبر 1987 شهدت غزة انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى –أو ما عرف بانتفاضة الحجارة-من أراضيها وتحديدا من مخيم جباليا للاجئين، حين احتشد عشرات الفلسطينيين احتجاجا على دهس سائق إسرائيلي لأربعة عمال فلسطينيين بسيارته، وبدءوا برشق قوات الاحتلال بالحجارة وسرعان ما عمت التظاهرات كافة أنحاء القطاع وانتقلت شرارتها إلى الضفة الغربية والقدس، وسبب استمرار الانتفاضة وقدرة الفلسطينيين على مواصلتها أزمة بالغة للحكومة الإسرائيلية عبر عنها اسحق رابين، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع أنذاك، بقوله أنه يتمنى أن تغرق غزة في البحر لأنها تمثل بالنسبة له وللإسرائيليين صداعا مزمنا!

ويرى الكاتبان الإسرائيليان زئيف شيف وايهود يعاري في كتابهما "انتفاضة" أن الانتفاضة الأولى "قطرت المجتمع الفلسطيني" و خلقت واقعا اجتماعيا جديدا .
واقع جديد

لم يختلف دور غزة في الانتفاضة الأولى عن دورها في الانتفاضة الثانية التي انطلقت في سبتمبر عام 2000، فقد شهد القطاع تنفيذ أول عملية استشهادية وقام بتنفيذها فدائي من حركة الجهاد الإسلامي، كما كانت نقطة انطلاق لعدد كبير من عمليات الفدائية الجريئة سواء تلك التي هاجمت المستوطنات الموجودة داخل القطاع أو التي استهدفت سيارات المستوطنين أو تلك التي امتدت إلى داخل ما يعرف بالخط الأخضر، وهو ما جعل غزة في دائرة الاستهداف والقصف الإسرائيلي باستمرار طوال الستة سنوات الفائتة.

كان أبرز الاغتيالات في هذه السنوات تلك التي استهدفت الشيخ صلاح شحادة قائد كتائب عز الدين القسام في 22-7-2002 والتي أدت إلى مقتل خمسة عشر شخصا أغلبهم من الأطفال فيما عرف ب"مذبحة حي الدرج"، واغتيال الشيخ أحمد ياسين في 22 مارس 2004 بصاروخ أطلق على كرسيه المتحرك، إلا أن تواصل العمليات الفدائية وخاصة تلك المشتركة بين الفصائل وابتكارها لأساليب جديدة كاستخدامها للأنفاق لمهاجمة المواقع الإسرائيلية، كذلك صمود المقاومة في غزة أمام الاجتياحات البرية الإسرائيلية المتكررة منذ عام 2001 وتكبيدها للقوات الإسرائيلية لخسائر فادحة في كل مرة، جعل القيادة الإسرائيلية تدرك أن اجتياح غزة لن يكون نزهة برية، كل ذلك دفع حكومة أريل شارون إلى المبادرة من جانب واحد وإعلان انسحابها من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات القائمة فيه والتي اكتمل تنفيذها في 12 سبتمبر 2005 .
الى أين ؟
تحولت غزة في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي إلى ساحة للمنافسة بين حركتي حماس وفتح، وصلت إلى ذروتها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في يناير 2006 والتي أسفرت عن فوز لحماس بأغلب مقاعد المجلس التشريعي، الأمر الذي قوبل بحصار إسرائيلي وأمريكي وأوروبي مشترك للحكومة الفلسطينية الجديدة، مما أشعل أزمة رواتب الموظفين الفلسطينيين في سبتمبر 2006، وتطورت الأزمة إلى مواجهات مسلحة بين أنصار فتح وأنصار حماس، ولا ندري إلى أين تسير هذه الأزمة..وفيما تنشغل الفرق الفلسطينيين بالاقتتال الداخلي، يعلن الجيش الإسرائيلي صراحة وعلى لسان رئيس أركانه دان حالوتس عن نيته اجتياح قطاع غزة مجدا لمنع إطلاق الصواريخ الفلسطينية على إسرائيل..

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لقد ظلت غزة حتى اللحظة عصية على الاجتياح الخارجي فهل تبقى عصية على الاقتتال الداخلي؟